قراءة في كتاب شهادة الصبيان
المؤلف على ونيس وفى مقدمته بين أنه لا تصح شهادة الأطفال سواء ذكور أو إناث في أى قضية فقال :
"أما بعد:
من المعلوم أنه يشترط في الشاهد أن يكون عاقلا بالغا باتفاق الفقهاء، فلا تقبل شهادة الطفل؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، ولا تقبل شهادة الصغير غير البالغ؛ لأنه لا يتمكن من أداء الشهادة على الوجه المطلوب.
قال ابن قدامة: "لا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعا؛ قاله ابن المنذر، وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية" ."
ونحدث على ونيس عن اختلاف أقوال الفقهاء في المسألة إلى تسع أراء ولكنه لخصها في ثلاث بقوله:
"واختلفوا في شهادة الصبيان على أقوال كثيرة، حتى عدها بعضهم في مذهبه ثمانية أقوال، ويمكن أن ندخل بعض هذه الأقوال في بعض مع تقييدها ببعض القيود، ونحصر الخلاف فيها على ثلاثة أقوال تجمع شملها وتقرب شتاتها :
القول الأول: لا تجوز شهادته مطلقا، وبذلك قال جمهور العلماء: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات، وروي هذا عن عمر، وعثمان، وعن ابن عباس، وعن القاسم، وسالم، وعطاء، والشعبي، والحسن، وابن أبى ليلى، وهو قول سفيان، الثوري، ومكحول، وابن
شبرمة، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، وأبي سليمان (داود الظاهري)، وابن حزم، وجميع أهل الظاهر .
القول الثاني: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض في الجراح والدم إذا لم يتفرقوا؛ وهو قول مالك، ورواية عن أحمد، ذكرها في "الواضح"، و"المستوعب" ، وروي عن علي بن أبي طالب ، وابن الزبير، وشريح، وعروة، والنخعي، وربيعة، والزهري .
واشترط المالكية في كتبهم لذلك شروطا:
قال القاضي عبد الوهاب: "أما شهادة الصبيان في الجراح والقتل على شروط تسعة:
وهي أن يكونوا ممن يعقل الشهادة، وأن يكونوا أحرارا، ذكورا، محكوما لهم بالإسلام، وأن يكون المشهود به جرحا أو قتلا، وأن يكون ذلك بينهم خاصة لا لكبير على صغير، ولا لصغير على كبير، وأن يكونوا اثنين فأكثر، وأن يكون ذلك قبل تفرقهم وتحبيهم، وأن تكون شهادتهم متفقة غير مختلفة" .
القول الثالث: تقبل ممن هو في حال العدالة، فتصح من مميز، وهي رواية عن أحمد، ونقل ابن هانئ: أنه ابن عشر، ثم إن ابن حامد على هذه الرواية استثنى الحدود والقصاص، فلم يقبل شهادتهم فيها احتياطا لذلك "
إذا عندما نفى تام للشهادة وعندنا إجازة لشهادة الأطفال على بعضهم وعندنا قبول شهادة ممن يفرق أى يميز فيما عدا الحدود والقصاص
ثم ذكر على ونيس سبب خلاف الفقهاء في تلك الآراء فقال :
"سبب الخلاف:
وسبب خلاف العلماء في رد شهادة الصبيان واعتبارها، خلافهم في النظر للمعتبر في الشهادة: هل هو حال الشاهد، أو المشهود به؟
فمن نظر إلى حال الشاهد وحصول التحفظ، وأنه لا يحصل إلا بتفكر وتذكر، وهذا عادة لا يوجد عند الصبيان، وأنه لا بد من حصول الثقة بقول الشاهد، بتحريه الصدق وتجنبه الكذب لم يقبل شهادتهم؛ لكون الصبي لا يأثم بكذبه، ولا يتحرز منه، ومن نظر إلى كونها ولاية والصبي مولى عليه رد شهادته.
ومن نظر إلى حال المشهود به وتعظيم الشارع له، وأنه احتاط بحق الدماء، حتى قبل فيها اللوث واليمين، أجاز شهادتهم في الجراح والدماء، وقال: لو لم نقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم.
ومن نظر إلى أن المعتبر في الشهادة حصول الثقة بالقول، اكتفى بالتمييز، وقاس الشهادة على الصلاة، وقال: إن الصبي مأمور بالصلاة يضرب عليها لعشر، فأشبه البالغ، فشهادته أحرى بالقبول.
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل جمهور الفقهاء على رد شهادة الصبيان مطلقا بالكتاب، والسنة، والأثر، والقياس، والعقل.
فمن الكتاب:
أولا: قال : {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} .
وجه الدلالة:
قال الماوردي: "دلت هذه الآية على المنع من قبول شهادة الصبيان من ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله: {من رجالكم}، وليس الصبيان من الرجال.
والثاني: أنه لما عدل عن الرجلين إلى أن قال: {فرجل وامرأتان}، دلت على أنه لا يعدل إلى غيرهم من الصبيان.
والثالث: أنه قال: {ممن ترضون من الشهداء} وليس الصبيان، ممن يرضى من الشهداء" .
وقال أبو بكر الجصاص: "ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان قوله : {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} ، وذلك خطاب للرجال البالغين؛ لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات، وكذلك قوله : {وليملل الذي عليه الحق} لم يدخل فيه الصبي؛ لأن إقراره لا يجوز، وكذلك قوله: {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا} لا يصح أن يكون خطابا للصبي؛ لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد، ثم قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} ، وليس الصبيان من رجالنا، ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين، كان قوله: {من رجالكم} عائدا عليهم، ثم قوله: {ممن ترضون من الشهداء} يمنع أيضا جواز شهادة الصبي، وكذلك قوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة، وليس للمدعي إحضاره لها
ثانيا: قال : {وأشهدوا ذوي عدل منكم}.
وجه الدلالة: أن الصبي ليس بعدل، فلا يكون أهلا للشهادة مطلقا
ثالثا: قال : {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}
وجه الدلالة: أن الله أخبر أن الشاهد الكاتم لشاهدته آثم، والصبي لا يأثم، فدل ذلك على أنه ليس بشاهد
رابعا: قال : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} .
وجه الدلالة: أن الله ألزم الشاهد أن يحضر لأداء الشهادة إذا دعي إليها، والصبي لا يلزمه الإجابة إجماعا، إذا فشهادته غير مقبولة.
قال الكاساني: لو كان له شهادة للزمته الإجابة عند الدعوة للآية الكريمة، وهو قوله : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} ؛ أي: دعوا للأداء، فلا يلزمه إجماعا ."
وكل ما سبق ذكره يمكن تلخيصه ونقده في التالى :
أولا شهادة الرجال والنساء مخصوصة بالدين
ثانيا شهادة ذوى العدل يستلزم كونهم عقلاء
ثالثا دعوة الشهداء وهم من شهدوا الواقعة شاملة للصغير والكبير لأن كلمة الشهداء تعنى من شهد بعينيه وسمعه
ومن ثم بناء على قوله" ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" يمكن أن يشهد الأطفال إذا حضروا واقعة ما خاصة إذا كانت تتعلق بداخل الأسرة أو ما بين الأولاد وبعضهم
ثم قال:
"أما من السنة:
فعن علي بن أبي طالب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق»، وفي رواية عن عائشة م عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» .
وجه الدلالة: كما قال الماوردي: فلما كان القلم مرفوعا عنه في حق نفسه إذا أقر، كان أولى أن يرفع في حق غيره، إذا شهد ."
الحديث باطل لأن معناه عدم عقاب الطفل على الإطلاق أى عقاب حتى يبلغ وهو ما يناقض مثلا رواية ضربهم على الصلاة لعشر كما يناقض وجوب ضربهم للكف على أذى أنفسهم كالطفل الذى يخربش نفسه أو يلعب بخراه فإنهم لو تركوا سيؤذون أنفسهم ومن ثم يضربون على أيديهم حتى يمتنعوا عن ذلك
ولو فتحنا باب عدم العقاب لكثر القتل والجرح بين الأطفال سواء بجهل منهم أو بدفع الكبار لهم انتقاما من بعضهم البعض
ثم قال :
"وأما من الآثار:
فمنها أن عليا قال لعمر: «أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ» وجه الدلالة: هو نفس وجه الدلالة من الحديث السابق."
وقد سبق المناقشة له ثم قال :
"وأما من القياس:
فقد قاسوا القيام بأداء الشهادة على القيام بحفظ الأموال، فقالوا: إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلأن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى .
وأما من المعقول:
فقالوا: لا تقبل شهادة الصبي العاقل؛ لأنه لا يقدر على الأداء إلا بالتحفظ، والتحفظ بالتذكر، والتذكر بالتفكر، ولا يوجد هذا من الصبي عادة؛ ولأن الشهادة فيها معنى الولاية، والصبي مولى عليه .
وقالوا: الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعه منه، فلا تحصل الثقة بقوله، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار، لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون .
وقالوا: كيف تقبل شهادة من إذا فارق مكانه لم يؤمن عليه أن يعلم ويخبب ."
وكل هذا الكلام مردود عليه بأنه في العديد من القضايا ستذهب حقوق الغير وضياع حقوق الغير ظلم وإنما شرعت الأحكام لتحقيق العدالة ومن ثم لابد من الأخذ بشهادة الأطفال في القضايا التى لم يحضرها سواهم وبالقطع القاضى لا يقبل أى شهادة سواء لكبير او صغير إلا بعد فحصها ودراستها لمعرفة كونها شهادة زور أم شهادة حق
وتحدث عن أدلة الرأى الثانى فقال :
"أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بجواز شهادتهم بعضهم على بعض في الجراح والدم إذا لم يتفرقوا: بالقرآن، والأثر، والقياس، والمعقول.
أما من القرآن:
قال : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} .
وجه الدلالة: أن الله أمر بإعداد القوة للجهاد، ومن ذلك إعداد الصبيان بالتدرب على القتال، ولا شك أنه يحصل بين الصبيان أمور تؤدي إلى الجراح، فكان لا بد من قبول شهادة بعضهم على بعض للضرورة.
قال القرافي: واجتماع الصبيان للتدريب على الحرب من أعظم الاستعداد؛ ليكونوا كثيرا أهلا لذلك، ويحتاجون في ذلك إلى حمل السلاح؛ حيث لا يكون معهم كبير فلا يجوز هدر دمائهم، فتدعو الضرورة لقبول شهادتهم على الشروط المعتبرة ."
والآية لا تصلح في موضوع الشهادة لتحدثها عن إعداد القوة وليس عن الأطفال
ثم قال :
"وأما من الآثار:
فعن مالك عن هشام بن عروة: أن عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح
قال ابن رشد: ووجه إجازتها على المعلوم في المذهب الاتباع لما جاء في ذلك عن السلف "
وهو نقل بشر عن بشر وليس من الوحى ثم قال :
"وأما من الإجماع:
قال مالك: "الأمر المجمع عليه عندنا أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم من الجراح وحدها ولا تجوز في غير ذلك إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا أو يخببوا أو يعلموا ، وعن عبد الملك قال: لم يزل من أمر الناس قديما" .
وقال القاضي عبد الوهاب البغدادي: "ودليلنا على قبولها على الصفة المشترطة فيها أن ذلك إجماع الصحابة؛ لأنه مروي عن علي وابن الزبير ومعاوية، ولا مخالف لهم"
وأما من القياس:
فقد قاسوا شهادة الصبيان على شهادة النساء، فقالوا: كما يكتفي بشهادة النساء في الموضع الذي لا يحضره إلا النساء، يكتفي فيها بشهادة الصبيان في الموضع الذي لا يحضره إلا الصبيان
وأما من المعقول:
فقد قالوا: قبول شهادة الصبيان له حظ من النظر.
قال ابن رشد: "الشهادة لما كان طريقها اليقين لغالب الظن بصحتها، دون العلم بمغيبها، جاز أن يكتفى فيها بشهادة الصبيان في الموضع الذي لا يحضره إلا الصبيان" ."
وكل هذا الكلام هو مناقشة عقلية وهى مناقشة تعتمد على تحقيق العدالة ومن ثم لا بأس بها
وناقش أدلة القول الثالث فقال :
"أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بأنها تقبل ممن هو في حال العدالة، فتصح من مميز، بالمأثور والمعقول.
أما من المأثور:
قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن عامر، عن مسروق؛ أن ستة غلمة ذهبوا يسبحون، فغرق أحدهم، فشهد ثلاثة على اثنين أنهما أغرقاه، وشهد اثنان على ثلاثة أنهم أغرقوه، فقضى علي أن على الثلاثة خمسي الدية، وعلى الاثنين ثلاثة أخماس الدية .
وجه الدلالة: أن عليا قبل شهادة الصبيان، ولم يردها."
بالقطع هذه القضية لم تحدث وعلى لا يمكن أن يقضى هكذا لأنه حكم على الأبرياء والقتلة معا بكون الكل مجرمون
ولو نظر القوم في الحكاية لوجدوا أن القاضى لم يأخذ بشهادة أولئك ولا شهادة هؤلاء لأن الحكم الصادر اعتبر الكل قتلة
والحكم هو بمثابة حكم الظلمة اضرب المربوط يخاف السايب فإذا حكم على الأبرياء خاف المجرمون
ثم قال :
"أما من المعقول:
أولا: أن المميز أقرب شبها بالبالغ؛ ولذا أمر بالصلاة وأثيب عليها.
روى ابن إبراهيم عن أحمد أنه سئل: هل تجوز شهادة الغلام؟
قال: إذا كان ابن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، وأقام شهادته، جازت شهادته؛ انتهى كلامه.
وهذا النص إنما يدل لما ذكره بعض الأصحاب من أنه تقبل شهادة ابن عشر؛ لأنه يضرب على الصلاة أشبه البالغ، ووجهه: أنه مأمور بالصلاة أشبه البالغ.
ثانيا: قالوا: إن حال الصبي المميز حال أهل العدالة لإمكانه ضبط الشهادة.
قال ابن مفلح رواية عن أحمد: "تقبل ممن هو في حال أهل العدالة؛ "لأنه يمكنه ضبط ما يشهد به فقبلت كالبالغ" "
وهذا الكلام عن تمييز ابن العاشرة هو كلام خاطىء فلا توجد سن معينة للتمييز فكل واحد قد يختلف عن ألأخر في سنة بلوغه والبعض قد يبلغ 18 سنة ولم يبلغ كما يقال في بلاد البرد وقد يبلغ قبل العاشرة في بلاد الحر القائظ
ومن ثم لا يبقى سوى شىء واحد وهو أن القاضى ليس مجنونا حتى يقبل شهادة طفل أو كبير دون تمحيص ودراسة ومن ثم تقبل شهادات الكل ولكن بعد التمحيص والدرس تظهر شهادة الزور من شهادات الحق ويتم عقاب من شهدوا زورا
وناقش على ونيس أدلة الفرق المختلفة فقال :
"المناقشة:
مناقشة أدلة القول الأول:
مناقشة استدلالهم بالآيات القرآنية:
قالوا في الرد على استدلالهم بالآيات: كل ما ورد في الآيات إنما هو خطاب للمكلف البالغ، وأما إذا عدم البالغ، واحتجنا إلى إثبات الحقوق، فقد عدلنا إلى من هو غير مخاطب بها، مع إمكان تحمله وأدائه لها، فقبلنا شهادته ضرورة، ووجه استدلالكم من الآيات صحيح في غير حالتنا، وإنما هو في حالة وجود الشهود البالغين.
قال القرافي: "الأمر بالاستشهاد إنما يكون في المواضع التي يمكن استثناء الشهادة فيها اختيارا؛ لأن من شرط النهي الإمكان، وهذا موضع ضرورة تقع فيه الشهادة بغتة، فلا يتناولها الأمر، فتكون مسكوتا عنها، وقال: إن هذه الظواهر عامة، ودليلنا خاص، فيقدم عليها" .
وأما حديث رفع القلم، فقالوا في الرد عليه: لا دلالة فيه على عدم قبول عمل منه أداه على وجهه، فغايته رفع الإثم، والمراد بالقلم التكليف وما نحن فيه ليس منه، وإنما هو من باب حفظ الحقوق للآخرين بقوله: وأما القياس على حفظ أمواله، فإن الشريعة تراعي جانب المحافظة على الحقوق، فمنعت الصبي من ولاية ماله محافظة له على ماله، وقبلت شهادته محافظة للآخرين على حقوقهم.
وأجابوا عن استدلالهم بالمعقول فقالوا:
أما قولكم: إن الأداء لا يكون إلا بالتحفظ والتذكر، فنقول: ونحن لا نقبل شهادة الناسي والذي لا يذكر منهم، ولكن نقبل شهادة من أتقن وتذكر، وأما كونها ولاية فهذا لا يسلم؛ لأن الشهادة تفارق الولاية في كثير من الأمور.
وأما قولكم: الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعه منه، فلا تحصل الثقة بقوله، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار لا تقبل شهادته على غيره؛ كالمجنون.
فقد ذكرنا لقبول شهادته شروطا تحول دون كذبه، مؤيدة بقرائن الأحوال، والصغير إذا خلي وسجيته الأولى لا يكاد يكذب، وقياسه على المجنون قياس مع الفارق؛ لقبول الأعمال منه، واعتبارها بخلاف المجنون فافترقا.
مناقشة أدلة القول الثاني:
أما استدلالهم بآية الأمر بالإعداد للجهاد: فلا وجه للاستدلال بها؛ فالمخاطب بها البالغين، وإن سلمنا بتعليم الصغار، فالمعد لهم هم الرجال الذين يقومون بتدريبهم، فإن كان الرجال لا يدربونهم فلا عدة عند الصغار.
قال القاضي من الحنابلة: الجواب أنه ليس العادة أن الصبيان يخلون في الأهداف أن يكون معهم رجل، بل لا بد أن يكون معهم من يعلمهم أو ينظر إليهم، فلا حاجة تدعو إلى قبول شهادتهم على الانفراد .
وأما استدلالكم بأن ابن الزبير قبلها فنقول ما قال الشافعي: فإن قال قائل: أجازها ابن الزبير، فابن عباس ردها .
وهو نفسه رد على قولكم: إن ذلك إجماع الصحابة؛ لأنه مروي عن علي وابن الزبير ومعاوية، ولا مخالف لهم.
قال الماوردي: وقضاء ابن الزبير مع خلاف ابن عباس يمنع من انعقاد الإجماع، والقياس مع ابن عباس؛ لأن كل من لم تقبل شهادته في الأموال لم تقبل في الجراح، كالفسقة .
وقياسكم لها على الضرورة وشهادة النساء.
فنقول: لو جاز لأجل اعتزالهم عن الرجال أن تقبل شهادة بعضهم على بعض؛ لجاز لأجل اجتماع النساء في الحمامات والأعراس أن تقبل شهادة بعضهن على بعض، وهي لا تقبل مع الضرورة مع جواز قبولهن مع الرجال في الأموال، فالصبيان الذين لا تقبل شهادتهم مع الرجال، فأولى ألا تقبل في الانفراد، وبه يبطل استدلالهم.
مناقشة أدلة القول الثالث:
قال المخالفون لهم: أما استدلالكم بقضاء علي، فالرواية فيها عبد الله بن حبيب، وهو غير مقبول الحديث عند أهل العلم، ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيل لا يصدق مثله عن علي ا؛ لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم، وإن ادعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعا، فهذا غير ثابت عن علي ا .
وأما قولكم: إنه أشبه بالبالغ، وحاله حال أهل العدالة، فيقال: للشهادة شروط معتبرة؛ ولا عبرة فيها بالمشابهة، وحال أهل العدالة غير مضطرد؛ إذ المرأة حالها حال أهل العدالة، ولقبول شهادتها يضم إليها أخرى."
وبعد هذا النقاش حيث تم تضعيف معظم البراهين لختار على ونيس الرأى القائل بقبول شهادة الأطفال على بعضهم في كل الأمور فقال:
"الترجيح:
والذي أراه راجحا - والله أعلم - هو قبول شهادة الصبيان على بعضهم في كل شيء، وذلك مراعاة لمقاصد الشريعة العامة من المحافظة على الكليات الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
ولأن ترك العمل بشهادة الصبيان على بعضهم في وقت لا يوجد فيه غيرهم من إضاعة الحقوق التي لا يرضاها الله، وفي هذه الأزمان توجد تجمعات كثيرة للأطفال يحدث فيها ضياع المال والعقل باستخدام الصبيان، في الترويج للمخدرات، والقيام بالسرقات، ولا يشهد عليهم إلا أمثالهم، وعقول الصبيان في هذه الأيام في معرفة الباطل ونشره كثيرة، يشهد به الواقع، ويقر به القاصي والداني.
ومن قواعد الشريعة: المشقة تجلب التيسير، وكذا قول الشافعي رحمه الله: «إذا ضاق الأمر اتسع »، ومعناهما قريب يدل على أنه: إذا ظهرت مشقة في أمر يرخص فيه ويوسع، ومن فروع هاتين القاعدتين: قبول شهادة الصبيان في المواضع التي لا يحضرها الرجال، حتى نرفع المشقة عن الأمة، ونوسع عليها ذلك التضييق الذي يؤدي إلى إهدار الحقوق.
هذا، وإن قلنا بقبول شهادتهم، فهذا أمر يرى القاضي فيه رأيه من اعتبار حال الأولاد، من ناحية الصدق، والقرائن التي تحتف بوقائعهم، والتي توصلنا إلى العمل بغلبة الظن، وقد ذكر بعض فقهاء المالكية ستة عشر شرطا لقبول شهادتهم، يمكن الرجوع إلى بعضها للوصول إلى قضاء عادل يزيل الخصومات، ويوصل الحقوق إلى أصحابها، خاصة وقد عمل بشهادة الصبيان كثير من سلف الأمة، والعامل بمثل عملهم على طريق السلامة .
قال ابن القيم: وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا، فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق، وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم، وتواطئوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الأداء، واتفقت كلمتهم، فإن الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده، فلا نظن بالشريعة الكاملة الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك .
وقد ذكرنا أنها تقبل للضرورة، فصارت الضرورة مؤثرة في الجنس، وفي العدد، فيتوجه على هذا أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة؛ مثل: الشهادة في الحبس، وحوادث البر، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل ولذلك أصول يرد إليها:
أحدها: شهادة أهل الذمة في الوصية إذا لم يكن مسلم وشهادتهم على بعضهم في قول.
الثاني: شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال.
الثالث: شهادة الصبيان فيما لا يشهده الرجال.
ويظهر ذلك بمحتضر في السفر إذا حضر اثنان كافران واثنان مسلمان مصدقان ليسا بملازمين للحدود واثنان مبتدعان، فهذان خير من الكافرين، والشروط التي في القرآن إنما هي شروط التحمل لا الأداء"
ورأى ونيس ينقصه جواز شهادتهم في قضايا الكبار التى لم يحضرها سواهم فهناك جرائم تحدث ويشهد الأطفال على وقوعها وكما سبق القول المهم في الشرع هو تحقيق العدالة ورفض شهادة الأطفال في تلك القضايا التى لم يحضرها سواهم يضيع الحقوق وهو ظلم بين
المؤلف على ونيس وفى مقدمته بين أنه لا تصح شهادة الأطفال سواء ذكور أو إناث في أى قضية فقال :
"أما بعد:
من المعلوم أنه يشترط في الشاهد أن يكون عاقلا بالغا باتفاق الفقهاء، فلا تقبل شهادة الطفل؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، ولا تقبل شهادة الصغير غير البالغ؛ لأنه لا يتمكن من أداء الشهادة على الوجه المطلوب.
قال ابن قدامة: "لا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعا؛ قاله ابن المنذر، وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية" ."
ونحدث على ونيس عن اختلاف أقوال الفقهاء في المسألة إلى تسع أراء ولكنه لخصها في ثلاث بقوله:
"واختلفوا في شهادة الصبيان على أقوال كثيرة، حتى عدها بعضهم في مذهبه ثمانية أقوال، ويمكن أن ندخل بعض هذه الأقوال في بعض مع تقييدها ببعض القيود، ونحصر الخلاف فيها على ثلاثة أقوال تجمع شملها وتقرب شتاتها :
القول الأول: لا تجوز شهادته مطلقا، وبذلك قال جمهور العلماء: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في أصح الروايات، وروي هذا عن عمر، وعثمان، وعن ابن عباس، وعن القاسم، وسالم، وعطاء، والشعبي، والحسن، وابن أبى ليلى، وهو قول سفيان، الثوري، ومكحول، وابن
شبرمة، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، وأبي سليمان (داود الظاهري)، وابن حزم، وجميع أهل الظاهر .
القول الثاني: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض في الجراح والدم إذا لم يتفرقوا؛ وهو قول مالك، ورواية عن أحمد، ذكرها في "الواضح"، و"المستوعب" ، وروي عن علي بن أبي طالب ، وابن الزبير، وشريح، وعروة، والنخعي، وربيعة، والزهري .
واشترط المالكية في كتبهم لذلك شروطا:
قال القاضي عبد الوهاب: "أما شهادة الصبيان في الجراح والقتل على شروط تسعة:
وهي أن يكونوا ممن يعقل الشهادة، وأن يكونوا أحرارا، ذكورا، محكوما لهم بالإسلام، وأن يكون المشهود به جرحا أو قتلا، وأن يكون ذلك بينهم خاصة لا لكبير على صغير، ولا لصغير على كبير، وأن يكونوا اثنين فأكثر، وأن يكون ذلك قبل تفرقهم وتحبيهم، وأن تكون شهادتهم متفقة غير مختلفة" .
القول الثالث: تقبل ممن هو في حال العدالة، فتصح من مميز، وهي رواية عن أحمد، ونقل ابن هانئ: أنه ابن عشر، ثم إن ابن حامد على هذه الرواية استثنى الحدود والقصاص، فلم يقبل شهادتهم فيها احتياطا لذلك "
إذا عندما نفى تام للشهادة وعندنا إجازة لشهادة الأطفال على بعضهم وعندنا قبول شهادة ممن يفرق أى يميز فيما عدا الحدود والقصاص
ثم ذكر على ونيس سبب خلاف الفقهاء في تلك الآراء فقال :
"سبب الخلاف:
وسبب خلاف العلماء في رد شهادة الصبيان واعتبارها، خلافهم في النظر للمعتبر في الشهادة: هل هو حال الشاهد، أو المشهود به؟
فمن نظر إلى حال الشاهد وحصول التحفظ، وأنه لا يحصل إلا بتفكر وتذكر، وهذا عادة لا يوجد عند الصبيان، وأنه لا بد من حصول الثقة بقول الشاهد، بتحريه الصدق وتجنبه الكذب لم يقبل شهادتهم؛ لكون الصبي لا يأثم بكذبه، ولا يتحرز منه، ومن نظر إلى كونها ولاية والصبي مولى عليه رد شهادته.
ومن نظر إلى حال المشهود به وتعظيم الشارع له، وأنه احتاط بحق الدماء، حتى قبل فيها اللوث واليمين، أجاز شهادتهم في الجراح والدماء، وقال: لو لم نقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم.
ومن نظر إلى أن المعتبر في الشهادة حصول الثقة بالقول، اكتفى بالتمييز، وقاس الشهادة على الصلاة، وقال: إن الصبي مأمور بالصلاة يضرب عليها لعشر، فأشبه البالغ، فشهادته أحرى بالقبول.
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل جمهور الفقهاء على رد شهادة الصبيان مطلقا بالكتاب، والسنة، والأثر، والقياس، والعقل.
فمن الكتاب:
أولا: قال : {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} .
وجه الدلالة:
قال الماوردي: "دلت هذه الآية على المنع من قبول شهادة الصبيان من ثلاثة أوجه:
أحدها: قوله: {من رجالكم}، وليس الصبيان من الرجال.
والثاني: أنه لما عدل عن الرجلين إلى أن قال: {فرجل وامرأتان}، دلت على أنه لا يعدل إلى غيرهم من الصبيان.
والثالث: أنه قال: {ممن ترضون من الشهداء} وليس الصبيان، ممن يرضى من الشهداء" .
وقال أبو بكر الجصاص: "ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان قوله : {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} ، وذلك خطاب للرجال البالغين؛ لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات، وكذلك قوله : {وليملل الذي عليه الحق} لم يدخل فيه الصبي؛ لأن إقراره لا يجوز، وكذلك قوله: {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا} لا يصح أن يكون خطابا للصبي؛ لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد، ثم قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} ، وليس الصبيان من رجالنا، ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين، كان قوله: {من رجالكم} عائدا عليهم، ثم قوله: {ممن ترضون من الشهداء} يمنع أيضا جواز شهادة الصبي، وكذلك قوله: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة، وليس للمدعي إحضاره لها
ثانيا: قال : {وأشهدوا ذوي عدل منكم}.
وجه الدلالة: أن الصبي ليس بعدل، فلا يكون أهلا للشهادة مطلقا
ثالثا: قال : {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}
وجه الدلالة: أن الله أخبر أن الشاهد الكاتم لشاهدته آثم، والصبي لا يأثم، فدل ذلك على أنه ليس بشاهد
رابعا: قال : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} .
وجه الدلالة: أن الله ألزم الشاهد أن يحضر لأداء الشهادة إذا دعي إليها، والصبي لا يلزمه الإجابة إجماعا، إذا فشهادته غير مقبولة.
قال الكاساني: لو كان له شهادة للزمته الإجابة عند الدعوة للآية الكريمة، وهو قوله : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} ؛ أي: دعوا للأداء، فلا يلزمه إجماعا ."
وكل ما سبق ذكره يمكن تلخيصه ونقده في التالى :
أولا شهادة الرجال والنساء مخصوصة بالدين
ثانيا شهادة ذوى العدل يستلزم كونهم عقلاء
ثالثا دعوة الشهداء وهم من شهدوا الواقعة شاملة للصغير والكبير لأن كلمة الشهداء تعنى من شهد بعينيه وسمعه
ومن ثم بناء على قوله" ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" يمكن أن يشهد الأطفال إذا حضروا واقعة ما خاصة إذا كانت تتعلق بداخل الأسرة أو ما بين الأولاد وبعضهم
ثم قال:
"أما من السنة:
فعن علي بن أبي طالب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق»، وفي رواية عن عائشة م عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» .
وجه الدلالة: كما قال الماوردي: فلما كان القلم مرفوعا عنه في حق نفسه إذا أقر، كان أولى أن يرفع في حق غيره، إذا شهد ."
الحديث باطل لأن معناه عدم عقاب الطفل على الإطلاق أى عقاب حتى يبلغ وهو ما يناقض مثلا رواية ضربهم على الصلاة لعشر كما يناقض وجوب ضربهم للكف على أذى أنفسهم كالطفل الذى يخربش نفسه أو يلعب بخراه فإنهم لو تركوا سيؤذون أنفسهم ومن ثم يضربون على أيديهم حتى يمتنعوا عن ذلك
ولو فتحنا باب عدم العقاب لكثر القتل والجرح بين الأطفال سواء بجهل منهم أو بدفع الكبار لهم انتقاما من بعضهم البعض
ثم قال :
"وأما من الآثار:
فمنها أن عليا قال لعمر: «أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ» وجه الدلالة: هو نفس وجه الدلالة من الحديث السابق."
وقد سبق المناقشة له ثم قال :
"وأما من القياس:
فقد قاسوا القيام بأداء الشهادة على القيام بحفظ الأموال، فقالوا: إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلأن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى .
وأما من المعقول:
فقالوا: لا تقبل شهادة الصبي العاقل؛ لأنه لا يقدر على الأداء إلا بالتحفظ، والتحفظ بالتذكر، والتذكر بالتفكر، ولا يوجد هذا من الصبي عادة؛ ولأن الشهادة فيها معنى الولاية، والصبي مولى عليه .
وقالوا: الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعه منه، فلا تحصل الثقة بقوله، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار، لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون .
وقالوا: كيف تقبل شهادة من إذا فارق مكانه لم يؤمن عليه أن يعلم ويخبب ."
وكل هذا الكلام مردود عليه بأنه في العديد من القضايا ستذهب حقوق الغير وضياع حقوق الغير ظلم وإنما شرعت الأحكام لتحقيق العدالة ومن ثم لابد من الأخذ بشهادة الأطفال في القضايا التى لم يحضرها سواهم وبالقطع القاضى لا يقبل أى شهادة سواء لكبير او صغير إلا بعد فحصها ودراستها لمعرفة كونها شهادة زور أم شهادة حق
وتحدث عن أدلة الرأى الثانى فقال :
"أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بجواز شهادتهم بعضهم على بعض في الجراح والدم إذا لم يتفرقوا: بالقرآن، والأثر، والقياس، والمعقول.
أما من القرآن:
قال : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} .
وجه الدلالة: أن الله أمر بإعداد القوة للجهاد، ومن ذلك إعداد الصبيان بالتدرب على القتال، ولا شك أنه يحصل بين الصبيان أمور تؤدي إلى الجراح، فكان لا بد من قبول شهادة بعضهم على بعض للضرورة.
قال القرافي: واجتماع الصبيان للتدريب على الحرب من أعظم الاستعداد؛ ليكونوا كثيرا أهلا لذلك، ويحتاجون في ذلك إلى حمل السلاح؛ حيث لا يكون معهم كبير فلا يجوز هدر دمائهم، فتدعو الضرورة لقبول شهادتهم على الشروط المعتبرة ."
والآية لا تصلح في موضوع الشهادة لتحدثها عن إعداد القوة وليس عن الأطفال
ثم قال :
"وأما من الآثار:
فعن مالك عن هشام بن عروة: أن عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح
قال ابن رشد: ووجه إجازتها على المعلوم في المذهب الاتباع لما جاء في ذلك عن السلف "
وهو نقل بشر عن بشر وليس من الوحى ثم قال :
"وأما من الإجماع:
قال مالك: "الأمر المجمع عليه عندنا أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم من الجراح وحدها ولا تجوز في غير ذلك إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا أو يخببوا أو يعلموا ، وعن عبد الملك قال: لم يزل من أمر الناس قديما" .
وقال القاضي عبد الوهاب البغدادي: "ودليلنا على قبولها على الصفة المشترطة فيها أن ذلك إجماع الصحابة؛ لأنه مروي عن علي وابن الزبير ومعاوية، ولا مخالف لهم"
وأما من القياس:
فقد قاسوا شهادة الصبيان على شهادة النساء، فقالوا: كما يكتفي بشهادة النساء في الموضع الذي لا يحضره إلا النساء، يكتفي فيها بشهادة الصبيان في الموضع الذي لا يحضره إلا الصبيان
وأما من المعقول:
فقد قالوا: قبول شهادة الصبيان له حظ من النظر.
قال ابن رشد: "الشهادة لما كان طريقها اليقين لغالب الظن بصحتها، دون العلم بمغيبها، جاز أن يكتفى فيها بشهادة الصبيان في الموضع الذي لا يحضره إلا الصبيان" ."
وكل هذا الكلام هو مناقشة عقلية وهى مناقشة تعتمد على تحقيق العدالة ومن ثم لا بأس بها
وناقش أدلة القول الثالث فقال :
"أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بأنها تقبل ممن هو في حال العدالة، فتصح من مميز، بالمأثور والمعقول.
أما من المأثور:
قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن عامر، عن مسروق؛ أن ستة غلمة ذهبوا يسبحون، فغرق أحدهم، فشهد ثلاثة على اثنين أنهما أغرقاه، وشهد اثنان على ثلاثة أنهم أغرقوه، فقضى علي أن على الثلاثة خمسي الدية، وعلى الاثنين ثلاثة أخماس الدية .
وجه الدلالة: أن عليا قبل شهادة الصبيان، ولم يردها."
بالقطع هذه القضية لم تحدث وعلى لا يمكن أن يقضى هكذا لأنه حكم على الأبرياء والقتلة معا بكون الكل مجرمون
ولو نظر القوم في الحكاية لوجدوا أن القاضى لم يأخذ بشهادة أولئك ولا شهادة هؤلاء لأن الحكم الصادر اعتبر الكل قتلة
والحكم هو بمثابة حكم الظلمة اضرب المربوط يخاف السايب فإذا حكم على الأبرياء خاف المجرمون
ثم قال :
"أما من المعقول:
أولا: أن المميز أقرب شبها بالبالغ؛ ولذا أمر بالصلاة وأثيب عليها.
روى ابن إبراهيم عن أحمد أنه سئل: هل تجوز شهادة الغلام؟
قال: إذا كان ابن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، وأقام شهادته، جازت شهادته؛ انتهى كلامه.
وهذا النص إنما يدل لما ذكره بعض الأصحاب من أنه تقبل شهادة ابن عشر؛ لأنه يضرب على الصلاة أشبه البالغ، ووجهه: أنه مأمور بالصلاة أشبه البالغ.
ثانيا: قالوا: إن حال الصبي المميز حال أهل العدالة لإمكانه ضبط الشهادة.
قال ابن مفلح رواية عن أحمد: "تقبل ممن هو في حال أهل العدالة؛ "لأنه يمكنه ضبط ما يشهد به فقبلت كالبالغ" "
وهذا الكلام عن تمييز ابن العاشرة هو كلام خاطىء فلا توجد سن معينة للتمييز فكل واحد قد يختلف عن ألأخر في سنة بلوغه والبعض قد يبلغ 18 سنة ولم يبلغ كما يقال في بلاد البرد وقد يبلغ قبل العاشرة في بلاد الحر القائظ
ومن ثم لا يبقى سوى شىء واحد وهو أن القاضى ليس مجنونا حتى يقبل شهادة طفل أو كبير دون تمحيص ودراسة ومن ثم تقبل شهادات الكل ولكن بعد التمحيص والدرس تظهر شهادة الزور من شهادات الحق ويتم عقاب من شهدوا زورا
وناقش على ونيس أدلة الفرق المختلفة فقال :
"المناقشة:
مناقشة أدلة القول الأول:
مناقشة استدلالهم بالآيات القرآنية:
قالوا في الرد على استدلالهم بالآيات: كل ما ورد في الآيات إنما هو خطاب للمكلف البالغ، وأما إذا عدم البالغ، واحتجنا إلى إثبات الحقوق، فقد عدلنا إلى من هو غير مخاطب بها، مع إمكان تحمله وأدائه لها، فقبلنا شهادته ضرورة، ووجه استدلالكم من الآيات صحيح في غير حالتنا، وإنما هو في حالة وجود الشهود البالغين.
قال القرافي: "الأمر بالاستشهاد إنما يكون في المواضع التي يمكن استثناء الشهادة فيها اختيارا؛ لأن من شرط النهي الإمكان، وهذا موضع ضرورة تقع فيه الشهادة بغتة، فلا يتناولها الأمر، فتكون مسكوتا عنها، وقال: إن هذه الظواهر عامة، ودليلنا خاص، فيقدم عليها" .
وأما حديث رفع القلم، فقالوا في الرد عليه: لا دلالة فيه على عدم قبول عمل منه أداه على وجهه، فغايته رفع الإثم، والمراد بالقلم التكليف وما نحن فيه ليس منه، وإنما هو من باب حفظ الحقوق للآخرين بقوله: وأما القياس على حفظ أمواله، فإن الشريعة تراعي جانب المحافظة على الحقوق، فمنعت الصبي من ولاية ماله محافظة له على ماله، وقبلت شهادته محافظة للآخرين على حقوقهم.
وأجابوا عن استدلالهم بالمعقول فقالوا:
أما قولكم: إن الأداء لا يكون إلا بالتحفظ والتذكر، فنقول: ونحن لا نقبل شهادة الناسي والذي لا يذكر منهم، ولكن نقبل شهادة من أتقن وتذكر، وأما كونها ولاية فهذا لا يسلم؛ لأن الشهادة تفارق الولاية في كثير من الأمور.
وأما قولكم: الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعه منه، فلا تحصل الثقة بقوله، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار لا تقبل شهادته على غيره؛ كالمجنون.
فقد ذكرنا لقبول شهادته شروطا تحول دون كذبه، مؤيدة بقرائن الأحوال، والصغير إذا خلي وسجيته الأولى لا يكاد يكذب، وقياسه على المجنون قياس مع الفارق؛ لقبول الأعمال منه، واعتبارها بخلاف المجنون فافترقا.
مناقشة أدلة القول الثاني:
أما استدلالهم بآية الأمر بالإعداد للجهاد: فلا وجه للاستدلال بها؛ فالمخاطب بها البالغين، وإن سلمنا بتعليم الصغار، فالمعد لهم هم الرجال الذين يقومون بتدريبهم، فإن كان الرجال لا يدربونهم فلا عدة عند الصغار.
قال القاضي من الحنابلة: الجواب أنه ليس العادة أن الصبيان يخلون في الأهداف أن يكون معهم رجل، بل لا بد أن يكون معهم من يعلمهم أو ينظر إليهم، فلا حاجة تدعو إلى قبول شهادتهم على الانفراد .
وأما استدلالكم بأن ابن الزبير قبلها فنقول ما قال الشافعي: فإن قال قائل: أجازها ابن الزبير، فابن عباس ردها .
وهو نفسه رد على قولكم: إن ذلك إجماع الصحابة؛ لأنه مروي عن علي وابن الزبير ومعاوية، ولا مخالف لهم.
قال الماوردي: وقضاء ابن الزبير مع خلاف ابن عباس يمنع من انعقاد الإجماع، والقياس مع ابن عباس؛ لأن كل من لم تقبل شهادته في الأموال لم تقبل في الجراح، كالفسقة .
وقياسكم لها على الضرورة وشهادة النساء.
فنقول: لو جاز لأجل اعتزالهم عن الرجال أن تقبل شهادة بعضهم على بعض؛ لجاز لأجل اجتماع النساء في الحمامات والأعراس أن تقبل شهادة بعضهن على بعض، وهي لا تقبل مع الضرورة مع جواز قبولهن مع الرجال في الأموال، فالصبيان الذين لا تقبل شهادتهم مع الرجال، فأولى ألا تقبل في الانفراد، وبه يبطل استدلالهم.
مناقشة أدلة القول الثالث:
قال المخالفون لهم: أما استدلالكم بقضاء علي، فالرواية فيها عبد الله بن حبيب، وهو غير مقبول الحديث عند أهل العلم، ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيل لا يصدق مثله عن علي ا؛ لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم، وإن ادعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعا، فهذا غير ثابت عن علي ا .
وأما قولكم: إنه أشبه بالبالغ، وحاله حال أهل العدالة، فيقال: للشهادة شروط معتبرة؛ ولا عبرة فيها بالمشابهة، وحال أهل العدالة غير مضطرد؛ إذ المرأة حالها حال أهل العدالة، ولقبول شهادتها يضم إليها أخرى."
وبعد هذا النقاش حيث تم تضعيف معظم البراهين لختار على ونيس الرأى القائل بقبول شهادة الأطفال على بعضهم في كل الأمور فقال:
"الترجيح:
والذي أراه راجحا - والله أعلم - هو قبول شهادة الصبيان على بعضهم في كل شيء، وذلك مراعاة لمقاصد الشريعة العامة من المحافظة على الكليات الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
ولأن ترك العمل بشهادة الصبيان على بعضهم في وقت لا يوجد فيه غيرهم من إضاعة الحقوق التي لا يرضاها الله، وفي هذه الأزمان توجد تجمعات كثيرة للأطفال يحدث فيها ضياع المال والعقل باستخدام الصبيان، في الترويج للمخدرات، والقيام بالسرقات، ولا يشهد عليهم إلا أمثالهم، وعقول الصبيان في هذه الأيام في معرفة الباطل ونشره كثيرة، يشهد به الواقع، ويقر به القاصي والداني.
ومن قواعد الشريعة: المشقة تجلب التيسير، وكذا قول الشافعي رحمه الله: «إذا ضاق الأمر اتسع »، ومعناهما قريب يدل على أنه: إذا ظهرت مشقة في أمر يرخص فيه ويوسع، ومن فروع هاتين القاعدتين: قبول شهادة الصبيان في المواضع التي لا يحضرها الرجال، حتى نرفع المشقة عن الأمة، ونوسع عليها ذلك التضييق الذي يؤدي إلى إهدار الحقوق.
هذا، وإن قلنا بقبول شهادتهم، فهذا أمر يرى القاضي فيه رأيه من اعتبار حال الأولاد، من ناحية الصدق، والقرائن التي تحتف بوقائعهم، والتي توصلنا إلى العمل بغلبة الظن، وقد ذكر بعض فقهاء المالكية ستة عشر شرطا لقبول شهادتهم، يمكن الرجوع إلى بعضها للوصول إلى قضاء عادل يزيل الخصومات، ويوصل الحقوق إلى أصحابها، خاصة وقد عمل بشهادة الصبيان كثير من سلف الأمة، والعامل بمثل عملهم على طريق السلامة .
قال ابن القيم: وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا، فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق، وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم، وتواطئوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الأداء، واتفقت كلمتهم، فإن الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده، فلا نظن بالشريعة الكاملة الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك .
وقد ذكرنا أنها تقبل للضرورة، فصارت الضرورة مؤثرة في الجنس، وفي العدد، فيتوجه على هذا أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة؛ مثل: الشهادة في الحبس، وحوادث البر، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل ولذلك أصول يرد إليها:
أحدها: شهادة أهل الذمة في الوصية إذا لم يكن مسلم وشهادتهم على بعضهم في قول.
الثاني: شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال.
الثالث: شهادة الصبيان فيما لا يشهده الرجال.
ويظهر ذلك بمحتضر في السفر إذا حضر اثنان كافران واثنان مسلمان مصدقان ليسا بملازمين للحدود واثنان مبتدعان، فهذان خير من الكافرين، والشروط التي في القرآن إنما هي شروط التحمل لا الأداء"
ورأى ونيس ينقصه جواز شهادتهم في قضايا الكبار التى لم يحضرها سواهم فهناك جرائم تحدث ويشهد الأطفال على وقوعها وكما سبق القول المهم في الشرع هو تحقيق العدالة ورفض شهادة الأطفال في تلك القضايا التى لم يحضرها سواهم يضيع الحقوق وهو ظلم بين
أمس في 5:11 am من طرف رضا البطاوى
» نظرات فى بحث خطأ في فهم مراد الفضيل بن عياض بخصوص ترك العمل لأجل الناس
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 5:36 am من طرف رضا البطاوى
» نظرات فى قصة هاروت وماروت
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 5:33 am من طرف رضا البطاوى
» أكذوبة سرقة قصة إنقاذ إبراهيم من نار نمرود
الإثنين نوفمبر 18, 2024 5:39 am من طرف رضا البطاوى
» نظرات في مقال السرقة المزعومة لسورة مريم
الأحد نوفمبر 17, 2024 5:51 am من طرف رضا البطاوى
» نظرات فى كتاب زواج موسى ولماذا تزوج داود وسليمان كل هؤلاء النسوة؟
السبت نوفمبر 16, 2024 5:18 am من طرف رضا البطاوى
» نظرات في مقال كيف يقوم المخ بالحكم الأخلاقى على الأشياء؟
الجمعة نوفمبر 15, 2024 5:31 am من طرف رضا البطاوى
» نقد كتاب إبطال ما استدلّ به لإمامة أبي بكر
الخميس نوفمبر 14, 2024 4:56 am من طرف رضا البطاوى
» رءوس السنة
الأربعاء نوفمبر 13, 2024 6:49 am من طرف رضا البطاوى